الصدق ومقامات أهله: من جوهر الحقيقة إلى صناعة الأقنعة – هشام فرجي

في الأزمنة التي تكثر فيها الأصوات وتندر القيم، ويشتد فيها الحرص على المظهر ويبهت فيها الجوهر، يصبح الصدق أكثر المفاهيم تعرّضًا للتزييف. فليس كل من نطق به صادقًا، ولا كل من لبسه أهلًا له، وللصدق مقامات، ولأهله مراتب، وبين هذه وتلك تُعرَف النفوس، وتُختبَر الضمائر، ويُقاس ثِقَل الرجال.
فحينما نتكلم عن الصدق فإننا لا نتحدث عن كلمة تُقال أو شعار يُرفع أو موقف يُستعار عند الحاجة، وإنما نقصد ذلك النظام الأخلاقي المتكامل، الذي تنتظم به النفوس قبل الألسن، وتستقيم به السرائر قبل الظواهر، وتُوزَن به الأقدار قبل الأفعال.
ومن هذا الباب دخل الحكماء إلى معرفة الرجال، إذ علموا أن الإنسان لا يُعرَف بما يقول أو بما يحدث، ولكن بما يثبت عليه إذا ضاقت به السبل، وتعرّت فيه الأقنعة، وسقطت عنه المجاملات.
وللصدق مقامات، ليست سواء، ولا متساوية الأثر، فهي تتفاوت تفاوت المعادن في جوف الأرض، فمنها ما يلمع سريعًا ثم يبهت، ومنها ما يبقى وإن طال عليه الزمان.
فمن أهله الصادق:
وهو الذي يصدق حين يُمتحن في قوله وفعله، ويثبت حين يُدعَى على موقفه ، فيجعل من الصدق موقفًا لا مواربة فيه، وإن لم يكن ذلك ديدنه في كل حين. فصدقه فعلُ شجاعةٍ مؤقتة، وليس طبع طبيعة دائمة.
ومنهم الصديق:
وهو الذي تجاوز صدقه حدود نفسه إلى غيره، فصار الصدق فيه علاقة تُبنى، وثقة تُؤسَّس، وأمانًا يُطمأن إليه. لا يُعرَف في كلماته وأقواله، وإنما في الشدائد، ولا يُختبر في حضور الناس من أهل وأصدقاء وأحبة، بل في لحظات غيابهم عنه.
ومنهم الصدوق:
وهو الذي سكن الصدقُ جوارحه، حتى صار له سجيّة، لا يُفارقه سواء في ربح أو في خسارة، ولا يتخلّى عنه في زمن خوف ولا في لحظة تحدثه نفسه إبانها في طمع. فيصدق لأنه لا يعرف غير ذلك.
ثم يجيء بعد هؤلاء قومٌ آخرون، هم أخطرهم على المعاني، وأشدهم على القيم، وأقساهم على الضمائر:
الصدقاويّون.
والصدقاوي — على ما دلّ عليه الاسم وصاغته الحال — هو الذي يُحسن صناعة الصدق دون أن يسكنه، ويجيد ألفاظ الود دون أن يعرفه، ويتقن هيئة النزاهة دون أن يلتزم بها. فيضع الصدق حيث ينفعه، ويرفعه إذا خدمه، ويخفضه إذا كلفه. إنه ابن اللحظة، لا ابن الضمير، وصاحب الواجهة، لا صاحب الجوهر.
والصدقاوي لا يكذب كثيرًا، بل يفعل ما هو أخطر من الكذب: إنه يُزيّف الصدق نفسه. فالصدق عنده لغة، لا حياة. والمبدأ عنده أداة، لا التزام. والقيمة عنده قناع، لا عقيدة.
وهكذا تنقسم مراتب الصدق في ميزان الوجود إلى أربع:
صدقٌ يُتَّخَذ موقفًا، وصدقٌ يُبنى علاقة، وصدقٌ يُعاش طبيعة، وصدقٌ يُستَعمل صناعة.
وبين الصدق الذي يُعاش، والصدق الذي يُستعمل، مسافةُ رجال. وفي زمنٍ كثرت فيه الأصوات وقلّت الضمائر، وتضاعفت الواجهات وندر الجوهر، لم يعد السؤال: من يصدق؟ وإنما صار السؤال: أيُّ صدقٍ هذا الذي يسكنه؟ فالإنسان يُوزن بما يحتمله من صدقه وليس بما يقول أو ينقل من حديث.
وفي هذا الزمن الذي صارت فيه الواجهات أعلى من الجواهر، والأصوات أعلى من الضمائر، لا يعود الخطر في الكذب الصريح، لكن في أولئك الذين يُزيّنون الكذب بثوب الصدق، ويُسقون الزيف من كأس القيم، ويبيعون الأقنعة في سوق المبادئ.
فاحذر الصدقاويّين…فهم لا يجرحون الحقيقة بسكين، وإنما يخنقونها بقفاز من حرير. والإنسان، في آخر الحساب، يُوزن بما احتمله من صدق لا بما قال ونقل وأول. ومن لم يحتمل الصدق… أتقن تمثيله.





