ليال الحربي – شتاء بغداد أم درس في العوازة… بورتريه اجتماعي
في بغداد، لا تتغير الفصول في السماء وإنما في العربات. صيفٌ يُباع فيه التفكير مع العرق وشتاءٌ يُباع فيه الدفء بكأس لبلبي.
الحمّال في الصيف لا يحتاج سوى قطعة بقلاوة صغيرة، أما حين يبرد الطقس فإنه يعمل دفاعا عن أطرافه. وفي هذا الفصل، تكتسب البقلاوة نكهة جديدة وهي نكهة الذباب الذي يصل إليها قبل الزبون ويفرض رأيه الديمقراطي عليها. يحاول البائع طرده بمروحة يدوية، بحركات متكررة وبلا أمل حقيقي في النجاح، فالذباب عنيد وله قناعة.
في الشتاء، تُنزع البقلاوة عن العرش بلا محاكمة، ويُستبدل بها قدر الحمص والفول( لبلبي وباگلة) يتوسطها عظمٌ واحد ثابت في مكانه. لا يخضع للفصول ولا للانهيارات. يمرّ الجائع، بسذاجة من لا يزال يؤمن بالنفاد، ويسأل:
— هذا العظم ما يخلص؟
فيجيبه البائع بهدوء:
— ما يخلص، مال چلب.
وأنا أعلم، كما يعلم كل من جرّب الجوع، أن ما لا يُؤكل لا ينفد. في الشتاء، يأتي من أخذ حمّاما صباحا وشَعره لا يزال مبللا ولا يعرف ثقافة مجفف الشَعر بعد فيقف عند عربة اللبلبي ليتدفأ بكأس دافئة، يقول للبائع: أعطني كأسا. فأعطاه كأسا وفوق كأس اللبلبي عصرة ليمون ونارنج
شرب المواطن الأصلع ماء اللبلبي وحده، كما تُشرب الأفكار الكبيرة بلا مضمون، واكتشف أن الماء أصدق من حبات الحمص، وأن البلغمة أهم من القناعة. رفع نظره إلى البائع وقال بلهجة من يريد أكثر :
— أعطني ماءً، فبلعومي محترق وأنا جئت من أجل بلعومي.
وهذه كانت التقفيصة الأولى فصاحب عربة اللبلبي يبيع الصمون أيضا، وما زال الجميع أوفياء لسياسة الحصار الاقتصادي (صمونة بربع، كأس لبلبي بربع،وماء اللبلبي مجانا) ونحن بحكم الخبرة الوطنية نعشق المجاني أكثر مما نعشق العدالة والحرية والحق
أخذ المواطن صمونة وشرب ماء اللبلبي حتى آخر قطرة مجانية ثم لم يبقَ في الكأس سوى الحبات. رفعها. هزّها. أسقطها في منتصف الصمونة بعد أن شقّها شقا دستوريا، لا يزيد ولا ينقص. بقيت وشالة ماء في قعر الكاسة. تجاهلها أولا ثم خانته فانسكبت. أكل اللفة واقفا. ماء الوشالة يخرخر على يده ثم على كُمه ثم يهبط بلا استئذان إلى الحذاء وهنا فقط اكتمل الطعم، فالصمون باللبلبي لا يُؤكل جافّا فلا بدّ أن يخرخر ماء العوازة وأن يدخل الجسد كله في الصفقة، لا الفم وحده.
وحين انتهى، تصاعدت الأبخرة من فوق رأسه كما تتصاعد من قدرٍ يغلي، قال بطمأنينة رجل يعرف حقوقه الاستهلاكية:
— عوازة.
نظر إليه صاحب العربة بتعجب متذمر ورد عليه المشتري الأصلع بالتذمر ذاته:
— اشتريتُ الصمّونة واشتريتُ اللبلبي وصنعت منهما لفة، وخرخرتْ على كرشي وحذائي وكُمي كلّه من أجل العوازة فهات العوازة.
وما كان له من بُدّ فأضاف له ماء اللبلبي ( العوازة) وهكذا اكتمل الطعم وصار اللبلبي لا يُؤكل إلا بالعوازة وصار ماء اللبلبي هو الخلاصة الفلسفية لكل هذه الصفقة، والدليل القاطع على أن المواطن لا يطلب الكثير فقط أن يُروى ولو مجانا.
ماء العوازة مأخوذ مباشرة من الصنبور بلا وساطة أخلاقية.
يُحفَظ دافئا بوساطة موقد كيروسين ( چولة) تُدسّ تحت قدر الحُمّص؛ كي لا تبرد الفلسفة قبل أن تُشرب. أما صحن الفول فلا يحتاج نارنجا ولا ليمونا. يكتفي بالبطنج وحده،
قبضة من يد البائع تضاف إليه قبضة من يد المشتري ولا أحد يعرف سرّ هذا الحب المبالغ فيه بين الفول والبطنج سوى عادة صارت أقوى من الذوق وأصدق من الوصفة.
يشربُ الأصلع الماء. يأكل الفول ثم يأتي دوره المعهود ويقول بوقار من أدّى واجبه المدني:
— عوازة.
أما صحن الشلغم (اللفت) فيأتي منقوعا بالتمر ثم يُعاد غمره بالتمر ويُطبخ حتى يفقد بياضه البريء ويتقمص لون التمر المريب. يُمسك اللفت المسلوق ويُشقّ نصفين ثم يُسحب واحدة وفجأة، لا تعود قطعتين بل خمسين وصلة صغيرة، كأن التفتيت نفسه شرط النكهة وكأن الشلغم لا يُؤكل إلا بعد أن يُهان قليلا. يُقدَّم معه دبسٌ غير أصلي عبارة عن (ربع العلبة دبس وثلاثة أرباعها ماء) وكلما وصل الدبس إلى الربع، زيد عليه ماء، لأن الاستمرارية أهم من الصدق.
جاء الأصلع، أخذ صحنه ووضع عليه ملحا.
يسأله البائع بحيرة ممزوجة بالمفاجئة: لماذا؟
يقول بوضوح خبير:
— حتى يصبح حامضا حلوا.
وصحن الشلغم لا يحتوي عوازة لذلك يُستعاض عنها باستراتيجية المديح فيُقال “شلغمكم طيب”
ويُقال “ما أكلت شلغما في حياتي مثل شلغمكم” ويعطيه البائع صحن عوازة ثاني على حساب العربة
فيسأل سائل: أشتري صحنا ثانيا؟
فيأتي الجواب حاسما بلا تردد فلسفي:
— لا يهمّني الثاني ولا الثالث
الأهم عندي العوازة.
إذا كان الطقس ممطرا، وكانت الرياح شمالية والأرض الإسفلتية الملاصقة للمباني مبتلة يضربها بردٌ قاسٍ، يصبح البرد بردَ إسكيمو. عندها تبدأ عربات اللبلبي والشلغم والباكلة بإطلاق بخارها كأنها مصانع فلسفة شعبية. يرتفع المشهد ويجذب العابرين فيرفع صاحب العربة نار الموقد (الچولة) أكثر، ويبدأ العمل.
تعمل هذه العربات نهارا كاملا فإن فرغ ما فيها، كان ذلك خيرا وإن زاد، ضُمَّ لليوم التالي وأُضيف إليه عظم الكلب ضمانا للاستمرارية. وقد وضع أحدهم نصف دجاجة على قدر اللبلبي، وبقيت هذه النصف على حالها أياما متواصلة. لم تتحوّل إلى فخذ ولا إلى ربع دجاجة ولا انشطرت إلى نصفين بل ظلّت هي، كأنها شاهدٌ تاريخي على صبر البروتين. تُجمع الأشواك من فم إلى فم ثم تُلقى في وعاء ستيل مملوء بالماء وعند انتهاء الأكل تُعاد إلى التداول. الكاسات من نايلون أو ستيل بضمانة عشرين عاما.كانت، قبل عشرين سنة، تُستخدم للحلاقة في الجيش واليوم تُستخدم لأكل اللبلبي فالمعادن كالمواطن تتكيف مع المهمات المتاحة.
يجلس البائع قرب القدر وثلاثة أرباع رماد سيجارته في اللبلبي بينما يطالب المشترون بوقار أخلاقي:
— خوط خوط بهارات، أبوي أبوي
أما الموقع الاستراتيجي لأكل الشوارع في الشتاء، فهو دائما أمام مكب نفايات أو بحيرة مجارٍ. عبارة عن بناية نفايات أعلى من العربة نفسها، للتوازن البصري. وهناك أكشاك وجنابر لا تفتح إلا بجوار الحمّام العمومي، مراعية حقيقة صحية بسيطة وهي أن تفريغ المعدة يستدعي امتلاءها. مجاري الحمّام العمومي مفتوحة، مغطّاة بألواح من الخشب، والمواطن الأصلع واقف فوق الخراب، يأكل فوق خراء التاجر وخراء التاجر ليس أي خراء.
تقف أفواجٌ من المواطنين الصُّلع في طابور طويل على فلافل ذائعة الصيت لصاحب كشك له عمّال لا يتوقفون ، مالك هذه العربة لديه سيارة دبل قمارة، يقع قرب السوق الإيراني، خلف الحمّام العمومي، مقابل عمارة القادسية. يأتي صباحا بالخيار والخس والطماطة مقطعة من البيت. اسمه علاوي أبو الفلافل. الفلافل بخمسمئة والمشكل بسبعمئة وخمسين ألف دينار، خمسة إخوة واقفون باعة، كأن العمل العائلي ضمانة الطعم.
وكل باعة أكل الشوارع أماكنهم قذرة، وهذا أمر اعتيادي في المشهد العراقي، عدا المندلاوي الذي يملك مطعما نظيفا، لكنه غالٍ. نص نفر كباب بخمسة فقط، للتاجر التوب.
هناك نوعان من التجار غير التوب، أحدهما يأكل الفلافل قرب الخراء البشري للحمام العمومي والآخر يأكل الفلافل نفسها في متجره الخاص، بعيدا عن رائحة الخراء والفرق بينهما ليس في الطعم بل في المسافة فقط.
يخرج الحمّال في الساعة الأخيرة من الليل، تلك الساعة التي يكون فيها البرد قد بلغ درجة النضج فلا يعود بحاجة إلى برهان على وجوده. البرد هنا موظفٌ حكوميّ مجتهد، يؤدي عمله كاملا دون تأخير أو واسطة. وفي هذا التوقيت بالذات، يظهر الحمالون، أولئك الفلاسفة العمليّون، فيجمعون الكراتين من الأرض كما لو كانوا يستردون بقايا حضارة منهارة ثم يشعلونها طلبا للدفء
إذا صادف أن السماء قررت المشاركة في المشهد، تحولت الشوارع إلى بحيرات صغيرة، تجريبية، لا تصلح للملاحة لكنها ممتازة لاختبار صبر الأحذية. تمتلئ الأحذية بالماء ثم يتكفل الهواء البارد بإقناع القدمين بأنهما كائنان زائدان عن الحاجة فيبحث المرء عن أي مصدر للدفء، وغالبا لا يعثر إلا على فكرة سيئة فتظل الجوارب مبللة نهارا كاملا.
وبجوار الرصافي تتكوّن بحيرة لا تنفع معها الحذاء المطري ولا النية الحسنة، بحيرة ذات طابع أخلاقي فاسد، تُربّى فيها أسماك افتراضية. يقف عندها تاجر فارغ، لا شغل له ولا عمل، واضعا سنارته في ماء القذارة على أمل صيد سمكة والسنارة ليست سوى خشبة وخيط؛ لأن الاقتصاد الوطني لا يشجع على الإتقان. وحين يُسأل، بفضول بريء إن كان قد اصطاد شيئا، يجيب بثقة صياد محترف: بنية… وأكو شبوط. فالنوايا، كما هو معلوم، تُغني عن النتائج
ويأتي تاجر آخر، بحذاء إيطالي فاخر، حذاء يبدو كأنه خُلق للمشي على أرصفة باريس لا لمجارير بغداد الطافحة. فيقفز من مكان إلى آخر، يمشي في الدرابين ويقضي الساعات الأولى من النهار في طريق وصوله إلى متجره والساعات الأخيرة في طريق عودته من شارع النهر إلى الرصافي ثم القادسية. ينظر إلى الحمال ذي الحذاء المبلل وينظر الحمال إليه وكلاهما يسأل الآخر بدهشة صادقة “لك أنت شنو؟” سؤال فلسفي عميق، لا ينتظر إجابة.
أما شوارع الشورجة، فلا يغطيها الطين بقدر ما تغطيها كراتين مبللة، سرعان ما تتحول هي الأخرى إلى طين عند أول تماس مع الواقع. لذلك يعمد أصحاب المتاجر والبسطيات إلى إزالتها، لا حبّا بالنظافة بل حرصا على أحذيتهم فيضعون بدلها كراتين ناشفة لأنفسهم وللمارّة؛ مبادرة إنسانية مؤقتة لا تصمد أكثر من ساعة واحدة. ورغم وجود عمّال نظافة في السوق، يعملون يوميا على التنظيف وحمل القذارة، فإن حجم النفايات يبقى أكبر من أي نية حسنة. تتدخل الحكومة عبر أمانة بغداد، التي تتعاقد بدورها مع مقاولين يملكون جرافات تعمل بشكل يومي، لكنها لا تُحدث فرقا حقيقيا؛ فالقذارة أسرع من التخطيط.
تُنقل أطنان النفايات إلى خلف السوق العربي قرب كنيسة الأرمن، وخلف سوق الغزل وبجوار الميدان وخلف شارع النهر. ومع الوقت تتحول هذه الأمكنة إلى مكبات نفايات مركزية. يعمل العمّال ليلا حتى الصباح يوميا لنقلها، في دورة لا تنتهي، لأن ما يُزال في الليل يعود ويتكدس من جديد مع النهار.
وهكذا يكون الشارع نظيفا في الدقائق الأولى من ساعات السوق، ثم لا يلبث أن يعود إلى طبيعته الأصلية .شارع نفايات مبللة، صالح للتأمل الفلسفي وغير صالح للمشي.
وبينما يعملون على تنظيف السوق ليلا ،ينام المشرد تحت قمرية على امتداد شارع الرشيد. يأتي صاحب المتجر صباحا ليوقظه من نومه، لا بدافع القسوة ولا الرحمة بل لأن النهار بدأ وعليه أن يفتح رزقه. غير أن الأشد إيلاما من منظر رجل مشرد، هو امرأةٌ مشردة؛ فالبؤس حين يرتدي هيئة أنثى يبدو كأنه خطأ أخلاقي في ترتيب العالم.
هناك امرأة مخبولة تنام قرب دائرة الكهرباء، فراشها القذر ملقى على الأرض بلا قمرية تحميها من السماء ولا جدار يسترها من أعين العابرين. السماء فوقها مفتوحة أكثر مما ينبغي،والمدينة من حولها مغلقة بإحكام.
في الجهة ذاتها ولكن في النهار، هناك الرجل يرتدي سدارة بغدادية، محمّل بطبقات من القماش تكفي لنجاة حيٍّ كامل من الصقيع، سدارة وكوت ولفاف، وكفوف وغطاء أذنين حتى إن ثقل الملابس جعله يمشي باعتذار، كأنه يعتذر للرصيف لأنه يضغط عليه أكثر من اللازم. فإذا ناداه أحد باسمه لم يلتفت برأسه بل التفت بهيئته كاملة ويقول بثقة خبير أرصاد :
_ اليوم والله باردة
فيُسأل بدهشة:
_ لعد إنت شلابس؟
وهناك امرأة ترتدي حذاء كعب مأكول الطرف يُصدر منه صوتا أجوفا في الطرقات كأنه إعلان عن حضورها تك.. تك..تك… يعرفها الجميع من وقع خطواتها قبل أن تُرى. زرقاء البشرة والشفتين ، نحيلة وكأنها تشكو من اعراض إيدز، بلا مؤخرة تقريبا لكنها تمشي وكأنها تحمل فائض العالم لا فائض اللحم. توزّع ابتسامات وصباحات لا منتاهية للجميع وتلف جسدها بربع بطانية مقلمة ؛لأن الاكتمال ترف ولأن الفقر كما نعرف لا يطلب من المرأة إلا أن تكون جميلة بما يكفي كي لا يُسأل عنها
البنايات من خمس طوابق فما دون لكنها متراصة بحكمة تمنع الشمس من التدخل في برد الأجساد. أما المدافئ الكهربائية فترفٌ نظري ولا يملكها إلا التاجر في متجره .إن اشتغل الطبگ احترقت المحوّلة وإن احترقت فذلك درسٌ إضافي في الاقتصاد الوطني.
عند بدء العمل، تُعلَّق أزمات البرد والمطر والطين مؤقتا، فالسوق لا يؤمن إلا بالكدّ. الكراتين تُعبّأ وتُفرَّغ والأجساد تؤدي الدور نفسه بانتظام يحسدها عليه الزمن. يأتي دور الحمّال، هذا الوجود المؤكد بالغياب في الصيف عليه انتقام واحد وفي الشتاء انتقامان، كأن الفصول قررت أن تتربى عليه. جسده مبلل وقدماه في الطين من الخامسة فجرا حتى الثانية ظهرا، يعمل بلا شكوى. ذلك الفيلسوف بلا كتب قد حسم المسألة منذ زمن ما دام العالم مصمّما ليكسر ظهره فلا جدوى من السؤال عمن كسر المفتاح. يعمل، يتعب ويعود، مقتنعا بأن أفضل طريقة لفهم الاقتصاد هي أن تحمله على ظهرك وأن أسعد الأمم هي التي أقنعت فقرائها بأن الارتجاف فضيلة.
وهكذا، يكون الشتاء في بغداد منهج تربية. يوزّع السوق أدواره بدقة أخلاقية، للتاجر الدفء وللحمّال الحكمة وللبرد وظيفة دائمة لا تعرف الإضراب. أما العوازة فهي الخلاصة الوحيدة الممكنة، ماءٌ بلا طعم يُسكب بلا مقابل ليذكّر المواطن ولو لثوان أن العالم يكتفي بأن يكون غير معني به.






