Editor-in-Chief : Dr.Azher S Saleh


Almanar Cultural Journal

منتدى كتّاب المنار الثقافية الدولية
مقالات نقدية

قراءة نقدية شاملة في تجربة يوسف الفرساوي القصصية:”شموع لا تبتسم” بوابة إلى عالم الألم

صورة شخصية لرجل بتسريحة شعر قصيرة، يرتدي بدلة رسمية، مع تعبير وجه هادئ.

المقدمة

لا يمكن مقاربة مجموعة “شموع لا تبتسم” ليوسف الفرساوي دون استحضار السياق الأدبي المغربي الذي نشأت فيه. فالقصة القصيرة المغربية قطعت أشواطا طويلة منذ رواد الخمسينيات والستينيات أمثال عبد المجيد بن جلون ومحمد زفزاف وأحمد بوزفور، مرورا بجيل السبعينيات والثمانينيات الذي عمق التجريب ووسع الأفق الجمالي، وصولا إلى الجيل المعاصر الذي يكتب في ظل تحولات اجتماعية وسياسية وتكنولوجية عميقة.

محمد زفزاف (1945-2001)، على سبيل المثال، كان قد أسس لكتابة قصصية تنحاز إلى المهمشين، إلى سكان الأحياء الشعبية، إلى البؤساء الذين لا صوت لهم. في مجموعته “محاولة عيش” (1985)، صاغ زفزاف عالما سرديا قاسيا، حيث الشخصيات تصارع من أجل البقاء، تواجه عنف الواقع بصمت مرير. لغته كانت مباشرة، خشنة أحيانا، لكنها صادقة، تعكس حقيقة الطبقات المسحوقة.

أما أحمد بوزفور (1939)، فقد اشتغل على القصة القصيرة جدا، وعلى التكثيف اللغوي، وعلى الرمز، محولا القصة إلى ومضة دلالية مشحونة. في مجموعته “النظر في الوجه العزيز” (1983) وغيرها، قدم بوزفور نموذجا للكتابة القصصية التي تراهن على الإيجاز، على الإيحاء، على الحكي المتوازي في القصة الواحدة، على ترك المسافات البيضاء ليملأها القارئ.

وفي العقود الأخيرة، ظهر جيل جديد من القاصين المغاربة، منهم من واصل الخط الواقعي الاجتماعي، ومنهم من انفتح على التجريب الشكلي، ومنهم من زاوج بين الاثنين. هذا الجيل يكتب في سياق مختلف: سياق ما بعد الربيع العربي، سياق حراك 20 فبراير في المغرب (2011)، سياق الإحباط السياسي والانسداد الاجتماعي، سياق البطالة والهجرة والقلق الوجودي.

يوسف الفرساوي ينتمي إلى هذا الجيل. ولد سنة 1996 بقصبة تادلا، أي أنه كان في الخامسة عشرة من عمره حين اندلع حراك 20 فبراير. هذه اللحظة التاريخية تركت أثرها العميق على وعيه، وهو ما ينعكس في نصوصه المشبعة بنبرة احتجاجية، بقلق وجودي، بشعور بالانسداد.

القاص يوسف الفرساوي هو أيضا باحث في تاريخ الاحتجاج بالمغرب. هذا التداخل بين البحث الأكاديمي والكتابة الإبداعية يمنح نصوصه بعدا تحليليا، حيث السرد لا يكتفي بالحكي، بل يسائل، يفكك، يعيد تشكيل الواقع. إنه يكتب بوعي الباحث الذي يدرس بنى السلطة، وآليات القمع، وأشكال المقاومة، لكنه يكتب أيضا بحساسية الأديب الذي يصغي إلى همس الذوات المسحوقة.

له بعض الأعمال، مثل روايته “قد يعود الماء لمجراه” (اللا رواية للنشر الإلكتروني) المتاحة على منصة كتوباتي، وروايته “غصن آيل للانكسار” التي وصلت إلى القائمة القصيرة في مهرجان أوسكار المبدعين العرب (النسخة الثالثة) بمصر، كما ذكرت جريدة “الصباح” المغربية في 27 فبراير 2025. هذا الحضور في المشهد الأدبي العربي يشير إلى أن صوته بدأ يسمع، وأن تجربته تستحق المتابعة والدراسة.

مجموعته “شموع لا تبتسم” (2025)، الصادرة عن منشورات جامعة المبدعين المغاربة، تأتي لتؤكد نضج تجربته القصصية. تتكون المجموعة من ستة عشر نصا قصصيا، تتراوح أطوالها، لكنها تتشارك في نبرة واحدة: نبرة الألم، القلق، الاحتجاج الصامت، البحث عن بصيص ضوء في عتمة كثيفة.

لمقاربة هذا العمل، نعتمد منهجية نقدية متعددة المداخل، انطلاقا من قناعة بأن النص الأدبي المركب لا يمكن اختزاله في مقاربة واحدة. سنجمع بين:

– التحليل السيميولوجي: انطلاقا من أعمال رولان بارت، خاصة كتابه “أساطير” (Mythologies, 1957)  وكتابه “نظام الموضة ” (Système de la mode, 1967)، حيث يظهر بارت كيف تتحول العلامات إلى أنساق دلالية تحمل إيديولوجيا ضمنية. وكذلك أعمال أمبرتو إيكو في السيميائيات السردية. سنحلل شبكة الرموز في المجموعة: الشموع، الضوء، العتمة، النوافذ، الأبواب، المطر، الليل، النهار… فكيف تتحول هذه العلامات إلى رموز وجودية واجتماعية؟

– التحليل النفسي: بالاستناد إلى أعمال سيغموند فرويد حول الصدمة (Trauma) والكبت (Répression)، وأعمال جاك لاكان حول تشكل الذات والآخر، وأعمال كارل يونغ حول الأنماط الأصلية (Archétypes)، سنسبر أغوار الشخصيات: رغباتها، مخاوفها، جروحها، آليات دفاعها النفسية. كيف تتشكل الذات في مواجهة الصدمات؟ كيف يتحول الجرح إلى كتابة؟

– التحليل السردي: بالاعتماد على أعمال جيرار جينيت في “خطاب الحكاية” (Discours du récit, 1972)، حيث يميز بين ثلاثة مستويات: الحكاية (Histoire)، السرد (Récit)، والتسريد(Narration) . وأعمال تزفيتان تودوروف في الشعرية البنيوية. سنحلل تقنيات الحكي: من يروي؟ من أي موقع؟ كيف يبنى الزمن السردي؟ كيف تقدم الشخصيات؟

– المقاربة السوسيولوجية: انطلاقا من أعمال بيير بورديو حول “حقل الإنتاج الثقافي ” (Le champ de la production culturelle)، وأعمال لوسيان غولدمان حول “البنيوية التكوينية (Structuralisme génétique)”، سنربط النصوص بسياقها الاجتماعي والسياسي: المغرب ما بعد 2011، البطالة، الهجرة، الاحتجاجات الاجتماعية، أزمة التعليم، العنف الأسري …

– المقاربة المقارنة: سنضع نصوص الفرساوي في حوار مع تجارب أدبية أخرى، مغربية (زفزاف، غلاب)، عربية (كنفاني، ونوس)، وعالمية (فورنيي، كافكا، لويس). هذا ليس لإثبات “تأثر” أو “اقتباس”، إنما لإبراز التقاطعات والاختلافات، لفهم خصوصية صوت الفرساوي ضمن تقليد أدبي أوسع.

 -I العتبات النصية: البوابات إلى عالم الشموع الحزينة

العتبات النصية، كما نظر لها جيرار جينيت في كتابه “عتبات ” (Seuils, 1987)، هي تلك العناصر المحيطة بالنص الأساسي: العنوان، العنوان الفرعي، الإهداء، التصدير، المقدمة، الملاحظات، الهوامش… إلخ. هذه العتبات هي أسمى من أن تكون زوائد، لأننا نعتبرها جزءا عضويا من النص، تؤطره، توجه قراءته، تحدد أفق انتظار القارئ.

1- العنوان الرئيس: “شموع لا تبتسم” – مفارقة الضوء الحزين

العنوان هو أول عتبة، وأهمها. جينيت يميز بين عدة وظائف للعنوان: وظيفة التعيين (Identification)، ووظيفة الوصف (Description) ،  ووظيفة الإغراء (Séduction)، ووظيفة الإيحاء . (Connotation) وعنوان “شموع لا تبتسم” يؤدي كل هذه الوظائف.

أ) البنية التركيبية

العنوان يتكون من ثلاث كلمات: اسم (شموع) + حرف نفي (لا) + فعل مضارع (تبتسم). البنية بسيطة، إلا أنها محملة بالدلالة. الشموع في صيغة الجمع تشير إلى تعدد، إلى كثرة، إلى القصص المتعددة في المجموعة، أو ربما إلى الشخصيات المتعددة، أو إلى الأوجاع المتعددة. النفي (لا) يخلق توترا ويكسر التوقع. الفعل “تبتسم” فعل إنساني، منسوب إلى الشموع، وهذا مجاز، إسناد مجازي أو الأنسنة، حيث الشموع تتحول إلى كائنات حية قادرة على الابتسام أو عدمه.

ب) الحقل الدلالي

الشمعة في المخيال الجماعي ترتبط بحقول دلالية متعددة، منها:

– الضوء والإنارة: الشمعة تضيء الظلام، تمنح الرؤية، ترمز إلى المعرفة، الوعي، الأمل.

– الاحتفال: الشموع تستخدم في أعياد الميلاد، في الأفراح، في الطقوس الدينية، ترمز إلى الفرح، الحياة، التجدد.

– الهشاشة والفناء: الشمعة تحترق، تذوب، تتلاشى، ترمز إلى الزوال، الموت، الوقت العابر.

– التضحية: الشمعة تحترق لتضيء الآخرين، تضحي بنفسها، ترمز إلى العطاء، الإيثار، المحبة.

حين يقول الكاتب “شموع لا تبتسم”، فهو يكسر التوقع. فنور الشمعة ينبغي أن يدل على الابتسام، والفرح، لكنها هنا الشمعة لا تفعل. وهذا يعني أن النور مثقل بالحزن، وأن هذا الضياء الآتي منها مشبع بالألم، وأن التضحية لا تقترن بالرضا. إنها مفارقة وجودية عميقة: أن تمنح النور وأنت حزين، أن تضيء الآخرين وأنت محترق من الداخل، أن تقدم العطاء وأنت محروم من الفرح كما تفعل بشكل بديهي كل الشموع.

ج) البعد الرمزي

الشمعة تتحول في هذا السياق إلى استعارة للإنسان المسحوق، للمضحي الذي لا يُرى، للمعطي الذي لا يُشكر، للمحترق الذي لا يُسمع أنينه. إنها رمز لجيل كامل من الشباب المغربي (والعربي)، جيل يحاول أن يضيء طريقا في عتمة سياسية واجتماعية واقتصادية، لكنه محروم من الابتسامة، محروم من الأمل، محروم من المستقبل.

هذا العنوان يذكرنا بعناوين قصصية عربية أخرى حملت مفارقات مماثلة، مثل “رجال في الشمس” لغسان كنفاني (1963)، حيث “الرجال” يموتون في “الشمس” التي ينبغي أن تكون رمزا للحياة لا للموت. أو “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح (1966)، حيث “الشمال” هو أوروبا، وهي ليست فردوسا كما يتصور بل جحيما آخر.

2- الإهداء: من الحب إلى الاحتجاج

الإهداء في الأدب العربي التقليدي كان غالبا موجها إلى شخصية محبوبة، مدرس، صديق، معشوقة أو إلى مفهوم مجرد (الحرية، الوطن، الحقيقة…). لكن إهداء الفرساوي مختلف تماما. يقول:

إلى من قتل بداخلي الإنسان وجعلني كومة بلا مشاعر ولا أحاسيس إلى من قمع الابتسامة التي رسمت على محياي ذات يوم ومن يومها: لا أعرف للابتسامة طريقا. إلى هذا وذاك أهدي هذه المجموعة القصصية وأقول: سأحاول استعادة الإنسان الذي تاه بداخلي وأستعيد معه ابتسامتي التي كنت أعشق رحيقها.”

أ) الإهداء السلبي

هذا الإهداء “السلبي” أو “العكسي”، موجه إلى “الجلاد” لا إلى “الحبيب”. إلى من “قتل”، “قمع”، “أفقد”. هذا الاختيار جريء، يكسر التقليد، يصدم القارئ منذ البداية. الكاتب لا يخفي غضبه، لا يجمل الواقع، على العكس تماما إنه يواجهه بصراحة مريرة.

من هو هذا “الجلاد” المبهم؟ “هذا وذاك”؟ هل هو شخص محدد؟ أم تراه منظومة؟ أم هو الواقع برمته؟ الإبهام مقصود، يفتح النص على تأويلات متعددة. قد يكون الجلاد هو الأب القاسي، الحبيبة المتعالية السادية، المدرس المتنمر، المجتمع القامع، السلطة السياسية، أو كل هؤلاء معا.

ب) فقدان الإنسانية

العبارة “قتل بداخلي الإنسان” مركزية. فالموت هنا غير موت الجسد، إنه أكبر وأفظع من ذلك، إنه الموت النفسي والروحي. تحول الإنسان إلى “كومة بلا مشاعر ولا أحاسيس”. هذا يشبه ما كتبه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في “الوجود والعدم” (L’Être et le Néant) عن مفهوم “التحول إلى شيء”، حيث الإنسان يتحول، بفعل فاعل، إلى شيء، إلى موضوع، يفقد حريته، إنسانيته، قدرته على الاختيار.

فقدان الابتسامة هنا هو فقدان الفرح، الأمل، البراءة. “ومن يومها: لا أعرف للابتسامة طريقا”؛ فهذه جملة حاسمة، تحدد لحظة فاصلة في حياة الذات الساردة، لحظة القطيعة بين “ما قبل” و”ما بعد”، بين الطفولة المفترضة والواقع المرير.

ج) الكتابة كاستعادة

لكن الإهداء لا ينتهي عند الجرح، بل يفتح أفقا للمقاومة: “سأحاول استعادة الإنسان الذي تاه بداخلي”. الكتابة هنا قبل أن تكون توثيقا للألم، هي محاولة علاج، استرجاع، ترميم. هذا يذكرنا بما كتبه الناقد الفلسطيني إدوارد سعيد عن “الرواية كمنفى ” (Le roman en exil)، حيث الكتابة تصبح وطنا بديلا، مساحة لإعادة بناء الذات المتشظية.

3- المقدمة القصيرة: بيان الاحتجاج

بعد الإهداء، يضع الكاتب نصا قصيرا:

شموع لا تبتسم صرخة ألم من واقع معيش ومحاولة لفت الانتباه إلى فئة هشة في حاجة ماسة إلى الرعاية والاهتمام للعبور بها إلى بر الأمان. الطفولة أساس الحياة والمراهقة جدرانها. إهمال الأساس يعني إقبار الجدران. فرجاء اهتموا بأبنائكم أو توقفوا عن إنجابهم.”

هذا النص يؤدي عدة وظائف:

أ) التأطير الموضوعاتي

يحدد الكاتب موضوع مجموعته: معاناة “فئة هشة”، وهي الطفولة والمراهقة. يعلن أن نصوصه، وإن كانت تبدو مجرد تخييل، فهي “صرخة ألم من واقع معيش”. هذا التأطير يوجه القراءة نحو بعد اجتماعي، احتجاجي، أخلاقي.

ب) الاستعارة المعمارية

“الطفولة أساس الحياة والمراهقة جدرانها”، هذه عبارة تحمل استعارة معمارية بليغة. البناء (الحياة) يحتاج إلى أساس قوي (طفولة سليمة) وجدران متينة (مراهقة متوازنة). إهمال الأساس يؤدي إلى انهيار كل البناء. هذا خطاب موجه إلى الأهل، المجتمع، السلطة: “اعتنوا بالأطفال والمراهقين، وإلا فإنكم تهدمون المستقبل”.

ج) الجملة الصادمة

فرجاء اهتموا بأبنائكم أو توقفوا عن إنجابهم”، هي جملة قاسية، مباشرة، تكاد تكون وقحة. لكنها تعبر عن غضب عميق. الكاتب يقول: إن لم تستطيعوا أن تكونوا آباء حقيقيين، فلا تنجبوا. الإنجاب مسؤولية، لا تعتبروه مجرد فعل بيولوجي. هذا خطاب جريء في مجتمع محافظ، يقدس الأبوة والأمومة، لكنه خطاب ضروري في سياق يشهد ارتفاعا مقلقا في معدلات العنف الأسري، الإهمال، التشرد، وخصوصا التحرش أو التنمر كظاهرة مستفحلة في المجتمع.

4- العناوين الفرعية: خريطة طوبوغرافية للألم

تحمل القصص الستة عشر عناوين متنوعة، لكنها تشكل في مجموعها خريطة دلالية متماسكة. عند تأملنا لهذه العناوين، كان جديرا بنا أن ندقق فيما يلي:

أ) التحليل اللغوي والتركيبي

إذا نظرنا إلى البنية التركيبية لهذه العناوين، نجد أنماطا متكررة:

– التركيب الإضافي: جرعة أمل”، “ضريبة قرار”، “هشاشة ضوء”، “نزيف حول العنق”، “سراب الظل”، “يوم القطف”. هذا التركيب يخلق علاقة بين مفهومين، غالبا ما تكون علاقة توتر أو مفارقة. “جرعة أمل”، مثلا، توحي بأن الأمل أصبح دواء نادرا، يُؤخذ بجرعات محدودة. “ضريبة قرار” توحي بأن كل قرار له ثمن، وأن الحرية مكلفة.

– الجمل الإسمية أو الفعلية: حب موقوف التنفيذ”، “وينكسر مع رؤيتها كل شيء”. هذه الجمل تصور حركة، حدثا، لكنه حدث منفي أو مؤجل أو كارثي. الحب “موقوف”، أي معلق، لا يسمح له بالاكتمال. الانكسار مقترن بـ “رؤيتها”، أي أن مجرد النظر إلى المحبوبة يسبب الانهيار.

– التراكيب الاستدراكية: مخطئة ولكن…”، “نعم… ولكن”. هذه التراكيب تعكس صراعا داخليا، ترددا، موقفا معقدا. الذات تعترف بشيء، لكنها تستدرك، تدافع، ترفض الحكم النهائي. وهذا يعكس، بذكاء بارع، المناطق الرمادية التي تشتغل عليها نصوص الفرساوي.

– الأسماء المفردة: استهتار”، “استياء”، هذه الأسماء تسمي حالات نفسية، فهي مشاعر، مواقف… إنها عناوين مقتضبة، لكنها محملة بالدلالة.

– الجمل الاحتمالية: قد أكون جبانا”، “قد لا تستحق الاهتمام”، استخدام “قد” يخلق مسافة، شكا، عدم يقين، ولربما عدم تقدير الذات. فهذه الذات الساردة لا تجزم، لا تحسم، تظل في منطقة الاحتمال، تقبع في زوايا مظلمة من التردد.

ب) الحقول الدلالية المهيمنة

إذا حللنا الحقول الدلالية لهذه العناوين، نجد:

– حقل الفقدان والنقص: مفقود”، “موقوف”، “هشاشة”، “ضوء خافت”، “سراب”، كلها تشير إلى غياب، نقص، ضعف، هم وحرمان.

– حقل الألم والجرح: نزيف”، “ينكسر”، “استياء”، “ضريبة”، كلها تشير إلى معاناة، جرح، ثمن مؤلم.

– حقل التردد والشك: مخطئة ولكن”، “قد أكون”، “قد لا تستحق”، “نعم… ولكن”، كلها تعكس عدم يقين، تردد، موقف غير حاسم.

– حقل الطبيعة والعناصر: المطر”، “الضوء”، “الظل”، هذه العناصر الطبيعية تتحول إلى رموز وجودية.

ج) المقارنة مع عناوين قصصية عربية أخرى

إذا قارنا عناوين الفرساوي بعناوين قصصية مغربية وعربية أخرى، نجد:

– محمد زفزاف في مجموعته “محاولة عيش”: العنوان الرئيس يحمل مصدر فعلي (“محاولة”)، وهذا يعكس صراعا وجوديا. عناوين قصصه غالبا مباشرة: “الأفعى”، “الثعلب”، “الذئب”… حيوانات ترمز إلى وحشية الواقع.

– غسان كنفاني في مجموعته “أرض البرتقال الحزين” (1962): العنوان يجمع بين عنصر طبيعي (البرتقال) وصفة إنسانية (الحزين)، خالقا مفارقة. فعناوين قصصه تحمل شحنة سياسية مباشرة أحيانا مثل: “رسالة من غزة”.

الفرساوي يشبه كنفاني في خلق المفارقات (“شموع لا تبتسم”، “حب موقوف التنفيذ”)، لكنه أكثر انشغالا بالحالات النفسية الداخلية (“استياء”، “هشاشة”، “قد أكون جبانا”…).

1 2 3 4الصفحة التالية
زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من المنار الثقافية الدولية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading