Editor-in-Chief : Dr.Azher S Saleh


Almanar Cultural Journal

منتدى كتّاب المنار الثقافية الدولية
سينما ومسرح

(عرزال) . .  قصة حُب تتجاوز الدِين والعِرق والانتماء المكاني-عدنان حسين أحمد-لندن

collage 1 4

يعتمد المخرج الأحوازي حبيب باوي ساجد في فيلمه الروائي الطويل الثاني (عرزال) على شخصيتين إشكاليتين تصلحان لأن تكونا مادة لقصة سينمائية تجمع بين طيّاتها حكايات الواقع الأسيان وتجليات الخيال المجنّح، ولعلّه من بين المُخرجين العرب القلائل الذين يضمرون جوانب كثيرة من القصص العاطفية لأبطاله ولا يُظهرون منها إلّا النزر اليسير الذي يأخذ شكل الصورة التذكارية أو القبر الأصمّ الذي يتكلم عند الضرورة ولا يتيح للمتلقّي أن يتشبّع بالأحداث والتفاصيل الدقيقة لقصص الحُب التي يشتغل عليها في أفلامه الروائية على وجه التحديد مُتخذًا من تقنية العُشر العائم من جبل الجليد الذي يراه المتلقون ولكنه يحرمهم في الوقت ذاته من معرفة ما يدور في التسعة أعشار الغاطسة تحت سطح الماء الأمر الذي يُشعِل مخيّلة المُشاهد ويثير في ذهنه العديد من الأسئلة المؤرِّقة التي تمنح النص السردي والبَصَري معًا متعة ذهنية خاصة تختبر آلية التلقّي من جهة، وتدفع المُشاهد لأن يكون عنصرًا مُشاركًا في صناعة الحدث بشكل أو بآخر.

تعود بنا قصة فيلم (عِرزال) التي كتبها المخرج بنفسه إلى الحرب العالمية الثانية التي هزّت أركان العالم لكنه لم ينتقِ منها سوى هذه القصة العاطفية الجميلة التي تجمع بين الواقعية والرمزية والنفَس الرومانسي، فهناك آلاف القصص التي حدثت بين عشّاق أجانب وسكّان محليين، والعكس صحيح، وبطلتنا هنا التي لم نرَها إلّا في صورة يتيمة واحدة هي فتاة پولندية هاربة من بلدها في أثناء الحرب العالمية الثانية أحبّها (عرزال) حينما كان شابًا يافعًا وبذل قُصارى جهده لكي يتزوجها لكنّ خاله رفض هذه الزيجة بحجة أنها امرأة (كافرة) ولا يجوز الارتباط بها بحسب الأوهام والتصورات الخاطئة التي علقت في ذهنه وأصبحت قناعة راسخة لا يرقى إليها الشك، بينما كان عرزال يؤمن بأنّ معشوقته، صاحبة العيون الزرق إمّا أن تكون مسيحية أو يهودية؛ أي من أهل الكتاب، ولا علاقة لها بأهل الضلالة والكفر كما يتصور الخال الذي ذهبت به الظنون شتّى المذاهب. كما أتاح لنا السينارست والمخرج دليلًا ماديًا آخرَ وهو القبر الذي ضمّ رفاتها وكانت يزوره بين أوانٍ وآخر وينظِّف الأعشاب البريّة التي كانت تغطيّه وتطمر الصليب الإسمنتي الذي يُثبت مسيحيتها.

لم تمنع واقعية القصة العاطفية التي ربطت بين شخصين من ديانتين مختلفتين أذهان المتلقين من التوهّج والتشظّي باتجاهات متعددة تتجاوز الدين والعِرق والانتماء المكاني، فالحُب قادر على أن يذوِّب الأفكار والقناعات والمعطيات الإيمانية في بوتقة واحدة تتماهى فيها الاختلافات الجزئية البسيطة إذا تفجّر الحُب وأصبح الإنسان سيد مصيره.

حوادث وإشارات رمزية

يلجأ المخرج حبيب باوي ساجد إلى تطعيم فيلمه بحوادث وإشارات رمزية كثيرة قد تتعلّق بالوالد الذي ورث عنه مهنة (الحراسة) ودُفن تحت أنابيب النفط المُكتنزة بالذهب الأسود الذي لم ينل منه الأحوازيون شيئًا رغم أنه يجري في أرضهم وينساب تحت أقدامهم التي تشققت بفعل العمل المُضني. تمتد رمزية الفيلم إلى شجرة النخيل التي لا تُقلع بسهولة لأن جذورها راسخة في أعماق الأرض، وإلى السيول القادمة من الشرق وهي تحمل في طياتها هلاك الزرع والضرع والإنسان الذي تُحاصره المياة الجارفة من كل حدب وصوب. أمّا النَفَس الرومانسي فيكفي أن نشير هنا إلى عرزال الذي أدّى دوره السيد (شاوي تابع جابري) بسلاسة لا فتة للانتباه تقارب إلى حدٍ كبير الصورة المرسومة في ذهن المخرج كما صرّح غير مرة. فقد حفظ الدور وجسّده بنجاح ملحوظ رغم كبر سنّه الذي جاوز التسعين بثلاث سنوات. تطرح ثيمة الفيلم أسئلة متعددة من بينها السؤال الأبرز للموت والحياة. فإذا كان الأب قد اختار أن يُدفن تحت أنابيب النفط لرمزيتها العالية فإنّ الخال المعترض على زواج ابن أخته من الپولندية قد دُفن في الخليج العربي، أمّا البطل التسعيني فهو لا يعرف أين سيُدفن في الاشهر أو السنوات القليلة القادمة؟

ومثلما انطوت المحبوبة الأولى على شخصية إشكالية فإن المعشوقة الثانية التي استطاعت أن تحرّك مشاعر هذا الرجل التسعيني لا تقل إشكالية عن سابقتها فهي الأخرى شخصية درامية جرفتها السيول الشرقية لتروي لنا قصتها المأساوية التي تتمحور على زوجها (سعد) الذي عَبَر مع أبناء القرية إلى الضفة الأخرى وغرق في الأمواج المتلاطمة ولم يبقَ منه سوى(يشماغه) الذي صنع منه مظلّة تقيها من ضربة الشمس. يتوسّع المخرج في تصوير محنة الفيضان الذي أغرق الزرع والمحاصيل والقرى المتناثرة هنا وهناك وأنّ الحكومة لم تقدّم للفقراء سوى اليسير من الطعام وتركوا الفقراء يتصارعون على مياه الشرب التي شحّت في المناطق المنكوبة ولم تمهِّد لهم طريقًا يسيرون عليه. وحينما يئسوا من الجهات الحكومية أخذوا يناشدون منظمة الصليب الأحمر الدولية علّها تجد حلًا يرتكنون إليه.

تنطوي الشركة أو (مصفاة النفط) على معنى رمزي أيضًا فهي قديمة جدًا ولا غرابة أن تتم المقارنة بين عمرها الذي بلغ مئة عام وعمر الحارس (عرزال) الذي أدرك التاسعة والتسعين من عمره وصار لزامًا عليه أن يتنحّى عن هذه المهنة لأنه لم يعد قادرًا على حماية هذه الشركة التي هرمت وشاخت ولكنّ الحارس يحاججهم بالأدلة الدامغة التي تُثبت بأنّ الشركة لم تفقد بُرغيًا واحدًا خلال سنوات حراسته الطويلة.

يفاجأ الحارس بدخول امرأة إلى الشركة النفطية المسيّجة ويستفسر عن كيفية دخلوها الذي سيسبّب له مشكلة مطالبًا إيّاها بالمغادرة فتوضّح له السبب قائلة: ( من الشعيبية للخفاجية، ومن الرفيعة والحميدية للحويزة، ومن عطيّش للأحواز، ومن عبّادان للمحمرة، ومن المعشور للفلاحية . . سيول ماخذتنا سحب، غرگانين طول وعرض . . وين أمشي؟).

تجسيد فكرة الخلود

يتعاطف معها الحارس ويطلب منها أن تدخل في إحدى غرف الشركة بينما تواصل الجهات الأمنية البحث عنها في الشركة فلا يجدون لها أثرًا رغم أنّ عاملًا أخرس قد اكتشف وجودها وبلّغ عنها الجهات المعنية. تتعقد الأمور فيطلب منها الحارس أن تختبئ في إحدى الغرف وتتوارى عن الأنظار. وفي أثناء هذه المدة تروي لنا قصة زوجها (سعد) الذي سألته ذات مرة إن رزقهما الله ببنت فماذا يسمّيها؟ فأجاب من دون تردد: (بدرية) وهو اسم أمه، وإذا كان المولود ذكرًا؟ فأجاب: أسمّيه (حاوي) وهو اسم أبيه. وحينما استفسرت عن السبب قال: بهذه الطريقة فإنّ أمي وأبي لا يموتون إلى الأبد.

لا تكف الجهات الأمنية عن متابعة الحارس ودهم الشركة الذي يسبب له إرباكًا ملحوظًا فيسقط مغمىً عليه ويُصاب بفشخ في رأسه فتأخذه المرأة الشابة إلى المستوصف ويداويه أحد الأطباء ويطلب من (ابنة الحارس) كما ظنّ بأن تعتني به لبعض الوقت حتى يتماثل للشفاء لكنه كان يحثُّ الخُطى لأن الشركة قد ظلّت من دون (ناطور) الأمر الذي أثار استغراب هذه القادمة الجديدة التي اتخذت من الشركة ملاذًا لها.

لعل الحارس يجيب على السؤال الذي طرحته المرأة على نفسها: ( الشركة شبيها ما أدري؟). فيمضي عرزال في سرد حكاية والده للقادمة الغريبة حيث قال: (حينما طردَ الشاهُ العربَ من الأحواز حملَ أبي بندقيته، وركبَ فرَسَهُ وقال: أنا دفنتُ أحبابي في هذه الأرض، وأنَّ النخلة لا تنقلع بعروقها، وأنا نخلة هذه الأرض، فعلّق بندقيته على كتفه، ووضعَ السرج على ظهر حصانه، وذهب ولم نسمع بأخباره منذ لك الوقت. وفي إحدى الليالي كنت أحرس في هذه الشركة لوحدي قذف والدي نفسه في الغرفة التي تسكنين فيها وتبيّن أنه كان مختبئًا في الغابة البرية وكان الدم يتساقط من رأسه ووجهه وصاح باسم ابنه وقال: (الآن ادفني بهذه الشركة فهي المكان الوحيد الذي لا يشكّ فيه أحد). كان يخشى من غضب الحكومة التي لا يسلم منها أحد. ففي ذلك الوقت أعدموا حيدر الطليل مع أربعة من رفاقه وقتلوا 240 أحوازيًا بينما أوصاه الأب أن يُخبر أمه (ترچية) أن تأخذ سعد وسامي وتذهب للعراق. أما هو فقد بقي لوحده في الشركة لأنه لم يستطع أن يفارق قبر أبيه.

تجربة الفقد والحاجة الروحية

تتكرر لقاءاته مع المرأة التي اقتحمت حياته فيسأل عن أهلها وأعمامها فتجيبه قائلة: (كنّا نقصُّ البردي، ونزرع الحنطة، وبيوتنا لا أبواب فيها مشرعة للضيوف الأبعدين والأقربين أمّا الآن ففرسنا تحفر الأرض بحوافرها).

تتضح معالم العلاقة العاطفية التي بدأت تربط الطرفين، عرزال؛ الرجل الذي شارف على المئة والمرأة الشابة التي تجمعها به تجربة الفقد والوحدة والحاجة الروحية إلى كائن يتنفّس بجوارها. يتردد (عرزال) إلى المقبرة التي تضمّ رفات الفتاة الپولندية التي أحبّها وأخلص لها من دون بقية الفتيات اللواتي صادفهنَّ في حياته.

يتعالق السينارست ومخرج الفيلم حبيب باوي ساجد مع الأغنية المحلية تارة، ومع الخبر الإذاعي أو مع قصص الأطفال وحكاياتهم المطعّمة بالأناشيد لكن الخبر الإذاعي يطغى على جوانب من هذا الفيلم إذ يتركز على أهمية الاقتصاد الأحوازي وحساسيته الكبيرة في الشرق الأوسط. فثمة مشاريع اقتصادية مؤثرة في الأحواز من بينها شركة صناعة الصُلب والبتروكيمياويات والإسمنت. ومن الناحية الزراعية تُنتج المدينة ما يُقارب 14 مليون طن من المُنتجات الزراعية. ومن بين مدن إقليم الأحواز هناك مدينة (الفلاحية) التي سكنها الشيخ خزعل الكعبي آخر حاكم للأحواز وكأن المخرج يذكِّرنا بهذه المعلومة المهمة والمعروفة محليًا لكنها قد تكون مغيّبة عربيًا ودوليًا.

ثمة شخص كّذاب يبالغ في تقديم خدماته لعامة الناس لدرجة أنه يُخبر الشخص الذي يكلّمه هاتفيًا بأنّ يضع سيارة أمام كل بيت لا سيارة لدى صاحبه وأن محطة الوقود ستوزّع البنزين مجانًا على حسابه الخاص وما إلى ذلك من مبالغات وأكاذيب مكشوفة.

تتضاعف إشكالية المرأة حينما تفكر بزوجها الغريق من جهة وبالرجل الطاعن في السن من جهة أخرى. فلقد فتّشت (الزور) أو الغابة البريّة لكنها لم تعثر عليه وهي مُصرة  ألّا تعود إلّا وهي مع جنازته في الأقل. يفكر (عرزال) في الاقتران بهذه المرأة التي (تبحث عن المأوى والخلاص بينما يبحث هو عن الرفقة والحُب) حيث نراه عند الخيّاط الذي يفصِّل له ثياب العُرس الجديدة بينما يشتري لها ملابس الزفاف. تُرى، هل توافق الأسرة التي لا نعرف مكان إقامتها حتى الآن؟ وهنا يفتح لنا المخرج من جديد كوّة أخرى للمخيّلة التي ستتقد من جديد. ولعل هذا التشويق المتواصل هو الذي يمنح الفيلم أهميته من الناحيتين السردية والبصرية. فقصة الفيلم لا تُسعفنا بيقين ثابت لكنها تحرّك فينا بعض الممكنات الذي يلغي التوقعات المستحيلة التي يمكن أن تحدث على أرض الواقع.

الهروب إلى الأفق المفتوح

تدهم العناصر الأمنية مبنى شركة النفط من جديد فلم يجد (الناطور) بُدًا من دفعها إلى الهرب من البوابة الخلفية للشركة من جهة الغابة.  ومع لهاثها المتواصل واندفاعها المشوب بالمخاوف الكثيرة تتلاشى المرأة في قلب الغابة ولا ندري ما الذي ستقبض عليه إذا ما نجحت قصة هروبها في الأفق المفتوح؟

لا بد من الإشارة إلى أنّ فيلم (عرزال) من إنتاج شركة فراديس للإنتاج الفني للمخرج والمُنتج الإماراتي المعروف مسعود أمر الله آل علي. وهو من الداعمين الأساسيين للأفلام الخليجية بشكل عام. وفي السياق ذاته لا بدّ من الإقرار بأنّ السينارست والمخرج الأحوازي حبيب باوي ساجد كان يقف وراء نجاح الشخصية المركزية وتشجيعها على تقمص الدور المحوري الذي تلتف حوله الأحداث. ولعل توجيهاته كانت السبب الرئيس في استنطاق قابليات الفنانة فايزة سوداني التي برعت في أدائها المعِّبر عن الخوف والحُب والحيرة والنجاة وقد عرفناها سابقًا في أفلام قصيرة ومسلسلات تلفازية إضافة إلى تمثيلها في أعمال مسرحية جسّدتها على خشبات بعض المسارح العربية. ولا ننسى في هذا السياق أهمية التصوير البارع للفنان عماد سلمانيان وموسيقى ستار أوراكي وغناء مينا دريس ومُونتاج محمد مهدي شكر. السؤال المهم الذي يثيره حبيب باوي ساجد في كلمة المخرج: (هل أن عِشق العجوز هو لمجرد الزواج أم لكي يضيء قلبة، ويستعيد شبابه، وتتفتّح بصيرته؟ عرزال يحرس النفط، ويعيش الحُب، فهل ينال أي منهما؟) خاصة وأنّ مهنة الحراسة يهددها الطرد، وأنّ الحب تلاحقه العناصر الأمنية التي تبحث عن تُهمة لا أثر ملموس لها.

بقي أن نقول بأنّ حبيب باوي ساجد قد ولد في الأحواز سنة 1980م. أخرج فيلمه الروائي القصير (من الحلم حتى الواقع) سنة 1996. كتب وأخرج نحو 30 فيلمًا. صدرت له عدة كتب مطبوعة في مجاليّ الأدب والسينما. أنجز أول أفلامه الروائية الطويلة بعنوان (سامي) سنة 2021م ويُعدّ أول فيلم عربي طويل في تاريخ السينما الأحوازية الوليدة. شارك حبيب في العديد من المهرجانات المحلية والعربية والدولية وحاز على العديد من الجوائز. (عرزال) هو ثاني فيلم روائي طويل في تجربته الإخراجية.

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من المنار الثقافية الدولية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading