فَقْرُ الاِحتِواءِ، وَمَشاعِرُ الجَفاءِ – حُسَامُ الدِّينِ أَبُو صَالِحَةٍ-جُمْهُورِيَّةُ مِصْرَ العَرَبِيَّةِ

النــاسُ عــادةً يَنْتَظِرونَ كَلِمَةً حانِيَةً، أَوْ نَظْرَةً غالِيَةً، أَوْ إِبْداءَ تَقْديرٍ، وَإِظْهارَ اهْتِمامٍ، أَوْ رِعايَةً بِإِخْلاصٍ، أَوْ نَصيحَةً بِاحْتِرامٍ، أَوْ شُكْرًا بِابْتِسامٍ، كُلُّ ذلِكَ يُعيدُ إِلَيْهِمْ تَوازُنَهُمْ في زِحامِ الحَياةِ، وَخِضَمِّ الآلامِ، فَيَحِسّونَ بِيَدٍ تُرَبِّتُ عَلى أَكْتافِهِمْ حينَ التَّعَبِ، وَتُضَمِّدُ جِراحَهُمْ حينَ النَّصَبِ، فَتَخِفُّ عَنْهُمْ أَثْقالُهُمْ، وَتَتَبَدَّلُ لَحَظاتُ الضِّيقِ إِلى سَعَةِ الطَّريقِ، وَنَكَباتُ الدَّهْرِ لِذِكْرَياتٍ عابِرَةٍ، لَكِنَّهُمْ يَصْطَدِمونَ بِعَثَراتٍ مِنَ البُخْلِ، وَصَخْرٍ مِنَ الشُّحِّ يَشْدَخُ صُدورَهُمْ، وَيَطْعَنُ أَفْئِدَتَهُمْ، وَيُكَدِّرُ صَفْوَ أَنْفُسِهِمْ؛ إِذْ يَمْنَعُهُمْ أَبْسَطَ مَعاني الاِحْتِواءِ، وَيُباعِدُهُمْ عَنْ أَقْصَرِ دَرَجاتِ الإِنْسانِيَّةِ بِسُلَّمِ الاِرْتِقاءِ، إِنَّهُ بُخْلٌ المَشاعِرِ، بُخْلٌ لا لِلْغُرَباءِ وَحْدَهُمْ، بَلْ لِأَقْرَبِ النّاسِ أَيْضًا، فَمَنْ يَبْخَلْ بِذَوِي قَرابَتِهِ، فَهُوَ أَبْخَلُ لِمَنْ عَداهُمْ، وَأَشَحُّ عَلى مَنْ سِواهُمْ.
– فَبُخْلُ المَشاعِرِ هُوَ ذلِكَ النَّوْعُ مِنَ الشُّحِّ الَّذي تُرى عَلامَتُهُ، وَتُسَجَّلُ في الدَّفاتِرِ خَسارَتُهُ، هُوَ شُحٌّ في الاِحْتِواءِ، وَإِقْصاءٌ بِجَفاءٍ، وَيَكونُ سُوقُهُ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ، أَوْ إِلَيْهِمْ أَشَدَّ وَقْعًا، وَأَنْكى جُرْحًا، وَأَقْسى أَلَمًا، فَالبُخَلاءُ يَسْتَكْثِرونَ المَحَبَّةَ، كَأَنَّها تُنْقِصُ مِنْ قَدْرِهِمْ، وَتَحُطُّ مِنْ شَأْنِهِمْ، يَحْسَبونَ الرَّحْمَةَ تَرَفًا، وَيَظُنّونَ الأَحاسيسَ عِبْئًا، وَيَتَعامَلونَ مَعَ المَشاعِرِ كَأَنَّها دُيونٌ يَجِبُ تَقْليلُها لا نِعَمًا يَنْبَغي إِشاعَتُها؛ بإكثارهَا .
– فَحينَ يَبْخَلُ الزَّوْجُ بِمَشاعِرِهِ الحانِيَةِ تُجاهَ زَوْجَتِهِ يَجْعَلُ الزَّوْجَةَ تُعاني مِنَ الجَفْوَةِ المُهْلِكَةِ، وَالقَسْوَةِ الفاتِكَةِ، وَمَعَهُ تَفْتَقِرُ لِأَدْنى مَعاني الدِّفْءِ، وَالحَنانِ، وَلا تَحِسُّ مَعَهُ أَبَدًا بِأَمانٍ، وَالزَّوْجَةُ حينَ تَبْخَلُ بِمَشاعِرِها عَلى زَوْجِها يَنْكَسِرُ فيهِ كُلُّ مَعاني المَوَدَّةِ، وَالرَّحْمَةِ فَيَأْفُلُ قَلْبُهُ، وَيَنْضُبُ وُجْدُهُ، وَلا تَمُرُّ بِهِ الأَيّامُ مُرورَ الكِرامِ، بَلْ كَالجِبالِ الرّاسِياتِ، وَبِطَعْمِ الحَنْظَلِ بِلا اِنْسِجامٍ، وَالأَبُ حينَ يَبْخَلُ بِمَشاعِرِهِ تُجاهَ أَبْنائِهِ، وَيَغُضُّ الطَّرْفَ عَنْ دَوْرِهِ في كَوْنِهِ قَلْبًا يَنْبِضُ بِالحَنانِ، وَعَقْلًا يَرْعى بِإِمْكانٍ، وَيَدًا تَمْنَحُ، وَصَدْرًا يَصْفَحُ، وَعَيْنًا تَسْهَرُ عَلى الجَميعِ، فَلا يَذْكُرُ مِنَ الدّينِ إِلّا ما يَدْعَمُ حَقَّهُ، وَيُسانِدُ مَأْرَبَهُ، وَيُحَقِّقُ طُموحَهُ، فَيُرَدِّدُ بِكُلِّ مَوْطِنٍ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ لأحدِ الصَّحابةِ: «أنتَ ومالكَ لأبيكَ»؛ ليستبيحَ مالَ ولدِهِ بغيرِ حقٍّ، ودونَ حاجةٍ ملحّةٍ بصدقٍ، والحقُّ ليسَ كذلكَ، فقدْ جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ ﷺ فقالَ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أبي أخذَ مالي، فقالَ النبيُّ ﷺ للرجلِ: «اذهبْ فأتني بأبيكَ»، فنزلَ جبريلُ عليهِ السلامُ على النبيِّ ﷺ فقالَ: (إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُقرِئُكَ السلامَ، ويقولُ لكَ: إذا جاءكَ الشيخُ فاسألْهُ عن شيءٍ قالَهُ في نفسِهِ ما سمعتْهُ أُذناهُ)، فلمّا جاءَ الشيخُ قالَ لهُ النبيُّ ﷺ: «ما بالُ ابنِكَ يشكوكَ، أتريدُ أخذَ مالِهِ؟»
قالَ: سلْهُ يا رسولَ اللهِ، هلْ أُنفِقُهُ إلّا على إحدى عمّاتِهِ أو خالاتِهِ أو على نفسِي؟
فقالَ النبيُّ ﷺ: «إيهٍ دعْنا من هذا، أخبرْنا عن شيءٍ قلتَهُ في نفسِكَ ما سمعتْهُ أُذُناكَ»
فقالَ الشيخُ: “واللهِ يا رسولَ اللهِ ما يزالُ اللهُ يزيدُنا بكَ يقينًا، لقدْ قلتُ في نفسِي شيئًا ما سمعتْهُ أُذُنايَ”
فقالَ ﷺ: «قلْ وأنا أسمعُ»
قالَ:” قلتُ:
غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَمُنْتُكَ يَافِعـــــــــًا تُعَلُّ بِمَا أَجْنِـي عَــلَيْـــكَ وَتَنْهَلُ
إِذَا لَيْلَةٌ ضَافَتْكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِــــــتْ لِسُقْمِــــكَ إِلَّا سَـــاهِرًا أَتَمَلْــمَلُ
كَأَنِّي أَنَــا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بِالَّــذِي طُـرِقْتَ بِهِ دُونِي فَعَيْنَايَ تَهْمُـلُ
تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّـــهَا لَتَــعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ وَقْــتٌ مُؤَجَّلُ
فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّــــنَّ وَالْغَــايَةَ الَّتِــي إِلَيْـهَا مَـــدَى مَا فِيكَ كُنْتُ أُؤَمِّلُ
جَعَلْتَ جَزَائِــي غِلْظَةً وَفَـظَاظَةً كَأَنَّــــكَ أَنْـتَ الْمُـنْعِمُ الْمُتَـفَضِّلُ
فَلَيْتَـــكَ إِذْ لَمْ تَرْعَ حَــــقَّ أُبُوَّتِي فَعَلْتَ كَـمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ
قال: “فحينئذٍ أَخَذَ النبيُّ ﷺ بتَلَابِيبِ ابنِهِ، وقال: “أنتَ ومالُكَ لأبيكَ”.
لَقَدْ تَنَاسَى الْبَخِيلُ أَنَّ الصَّحابِيَّ الوَالِدَ قَدْ أَفْنَى عُمْرَهُ سَعْيًا فِي تَرْبِيَةِ وَلَدِهِ، وَأَنْفَقَ مَالَهُ كُلَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَشِبَّ، وَيَبْلُغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، فَلَمَّا وَهَنَ عَظْمُهُ، وَشَابَ شَعْرُهُ، وَانْحَنَى ظَهْرُهُ، وَلَمْ يَعُدْ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ كَمَا كَانَ أَرَادَ الِابْنُ حِينَئِذٍ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْهُ، وَيَتْرُكَهُ حِينَ شِيبَتِهِ ، وَهُوَ بِرَيْعَانِ شَبَابِهِ؛ لِذَلِكَ نَهَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَعَنَّفَهُ بِقَوْلِهِ السَّابِقِ حَتَّى لَا يَكُونَ قَدْ جَحَدَ فَضْلَ الْأَبِ عَلَيْهِ، وَمَا نَثَرَ مِنْ عُمْرِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِيَنْعَمَ الِابْنُ بِشَقَاءِ أَبِيهِ، لَكِنَّ ذَاكَ الْأَبَ الْبَخِيلَ يَسْتَقْبِلُ دُونَ أَنْ يُرْسِلَ، وَيَأْخُذُ دُونَ أَنْ يُعْطِيَ، فَمَفْهُومُ الْأُبُوَّةِ عِنْدَهُ مُخْتَلٌّ، وَيَدُهُ مُمْتَدَّةٌ لَا بِالْعَطَاءِ، لَكِنْ بِجُيُوبِ أَبْنَائِهِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَأْخُذُوا مِنْهُ، بَلْ يُعْطُوا لَهُ مَا يَرْغَبُ، وَالْمُحَتَّمُ بِهِمْ أَنْ يُحَقِّقُوا لَهُ مَا يَتَمَنَّى كَيْ لَا يَغْضَبَ، وَإِلَّا وُصِمُوا بِالْعُقُوقِ، وَوُصِفُوا بِالْجُحُودِ، وَلَحِقَتْهُمُ اللَّعَنَاتُ، وَصُبَّ عَلَيْهِمْ جَحِيمًا لَا يَنْتَهِي، فَتَصِيرَ أَيَّامُ الْأَبْنَاءِ فِي ظِلِّ هَذَا الْأَبِ الشَّحِيحِ مُتَشَحَّةً بِالسَّوَادِ كَأَنَّمَا الْأَبُ مَيِّتًا بِمَوْتِ قَلْبِهِ، وَإِنْ كَانَ يَحْيَا بِجَسَدِهِ بَيْنَ الْأَنَامِ، فَالْأَبْنَاءُ يَبْحَثُونَ عَنْ حِضْنِ أَبٍ يُشْعِرُهُمُ بِالسِّلْمِ، وَالْوِئَامِ، لَكِنَّهُمْ يَلْهَثُونَ خَلْفَ سَرَابٍ بَعِيدٍ قَدِ اسْتَحَالَ الْمَنَالَ يَخَالُهُ الظَّمْآنُ مَاءً مِنْ شِدَّةِ عَطَشِهِ، وَقُوَّةِ ظَمَئِهِ فَإِذَا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ لَمْ يَجِدْ سِوَى رِمَالٍ مُلْتَهِبَةٍ مِنْ وَهَجِ الشَّمْسِ الْمُشْرِقَةِ بِأَشِعَّتِهَا الْحَارِقَةِ فَلَا يَرْتَوُونَ، وَلَا هُمْ بَعْدَ تَعَبٍ يَسْتَرِيحُونَ.
– وَالأَبْناءُ إِذا قَسَتْ قُلوبُهُمْ عَلَى الأَبَوَيْنِ، وَتَحَجَّرَتْ مَشاعِرُهُمْ، وَأَظْلَمَتْ أَفْئِدَتُهُمْ صارَتْ أَصَمَّ مِنَ الحِجارَةِ لا تَلينُ، فَنَرى عُقوقًا فَجًّا لا يَعْرِفُ لِلْبِرِّ مَعْنًى، وَلا لِلْوَفاءِ مَغْزًى؛ حَيْثُ تُهْدَرُ فيهِ شَيْبَةُ السِّنينَ، وَيُنْسى تاريخُ التَّضْحِيَةِ، وَيُقابَلُ السَّهَرُ الطَّويلُ بِالجَفاءِ المَريرِ، وَالدُّعاءُ الصّادِقُ بِالإِهْمالِ الفائِقِ، كَأَنَّ الأَبَوَيْنِ ـ وَقَدْ أَفْنَيا عُمْرَهُما حُرّاسًا لِأَحْلامِهِمْ ـ قَدْ صارَا عِبْئًا ثَقيلاً، لا ذِكْرى كَريمَةً، وَلا حَقًّا مَصونًا.
– إِنَّ عُقوقَ الأَبْناءِ لِآبائِهِمْ نارٌ صامِتَةٌ، تَبْدَأُ بِشَرارَةِ إِهْمالٍ، ثُمَّ تَسْتَعِرُ جَفاءً، حَتّى تُحْرِقَ جُذورَ البِرِّ مِنَ الأَنْفُسِ، فَلا يَبْقى إِلّا النَّدَمُ حينَ لا يَنْفَعُ النَّدَمُ، وَلا يُسْمَعُ الاِعْتِذارُ لِمَنْ وارَى التُّرابَ، وَكانَ بابًا لِلرَّحْمَةِ.
– فَبُخْلُ المَشاعِرِ لَيْسَ شُحًّا عابِرًا، بَلْ مَوْتٌ بَطيءٌ يَسْكُنُ الصُّدورَ، قَلْبٌ أُطْفِئَتْ قَناديلُهُ، فَلا يَخْفِقُ بِالمَحَبَّةِ، وَلا يَتَنَفَّسُ بِالمَوَدَّةِ، وَلا يَعْرِفُ طَريقَ التَّآلُفِ إِلى نَفْسِهِ، فَهُوَ قَلْبٌ وُسِمَ بِالقَسْوَةِ، فَصارَ كَحَجَرٍ أُلْقِيَ في قاعِ بِئْرٍ مُظْلِمٍ، لا يُسْمِعُ نِداءً، وَلا يَرُدُّ صَدًى، فَيَغْدو ذِكْرىً بِلا أَثَرٍ فاعلٍ.
– القَلبُ البَخيلُ بِمَشاعِرِه أَرضٌ يابسَةٌ، لا مَطرَ يَرويها، ولا نَبتَ يَزينها؛ كَقيعانِ الأَرضِ التّي لا تَمسِكُ ماءً، ولا تَنبتُ كُلأً؛ فلا خَيرَ فيها لِنفسِها، ولا نَفعَ مِنها لِغيرِها، فلا تُنتَظَرُ مِنَهُ رَحمةٌ، ولا تُرجى مِنَهُ شَفَقةٌ، ولا يُطمَعُ في وَدٍّ يَلينُ، فَهو كَنافذَةٍ مَطلِيَةٍ بِالسّوادِ، تَقفُ الشَّمسُ خَلفَها بِأشعَتِها عاجِزَةً عَنِ العُبورِ مِنها؛ فَيَموتُ الدَفءَ، وَيَبرُدُ المَكانُ، وَيَعمُّ الصَّقيعُ، إذ كَيفَ يُعطي مِن أَفلسَ وِجدانُهُ؟ وَكَيفَ يُنقذُ غَيرَهُ مِن غَرقٍ جِثمانُهُ؟ وَكَيفَ يَصلُ لِشاطِئِ المَحبَّةِ مِن لَم يَتعلَّمِ السِباحَةَ في بَحرِ المَشاعِرِ، وَالأَحاسيسِ؟ فَفاقدُ الشّيءِ لا يُعطيه، وَمِن بَخلَ فلا خَيرَ فيهِ، وَمِن تَحجَّرَ قَلبُهُ، وَقَسَا طَبعُهُ، عاشَ بلا أَثرٍ، وَرَحلَ بلا ذِكرٍ، فَما أَصبَرَ أَن تَحيا بَينَ أَناسٍ تَمشِي عَلَى الأَرضِ كَأَجسادٍ بلا أَروحٍ، وَقُلوبٍ بلا خَفقانٍ تَعسَةٍ بلا أَفراحٍ! هُم ظِلالُ بَشرٍ، لا يَسكُبونَ فيك حَياةً، وَلا يَزرَعونَ فيك طُمَأنينةً، كَلِماتُهم بَارِدَةٌ كَشتاءٍ قارِصٍ بلا مَدفَأةٍ، وَنَظراتُهم خاويَةٌ كَبيوتٍ مَهجورَةٍ، لا تَجدُ مَعَهم أَمنًا نَفسِيًّا، وَلا تَشعُرُ بِسَلامٍ داخِلِيٍّ، وَلا إِحساسَ بِوُجودٍ حَقِيقِيٍّ؛ حُضورُهم كَالغِيابِ، وَدَعمُهم كَالسَّرابِ، وَتَشجيعُهم كَالوَعدِ الكاذِبِ حِينَ المَآبِ، فَهُم مَشاعِرُ بَارِدَةٌ، وَأَحاسيسُ مُتَجَمِّدَةٌ، وَسَماوٌ بِالغُيومِ مَلَبَدَةٌ.
– لَقَد صَدَقَ رَسولُ اللهِ ﷺ حِينَ وَاجَهَ القُلوبَ اليَابسَةَ، ذَاتَ المَشاعِرِ المَفلسَةِ قَبلَ رِيِّها بِالإِيمَانِ، وَغَمَرَها بِالحَنَانِ؛ لَقَد قالَ ﷺ لِمَن تَعَجَّبَ مِن تَقبيلِهِ الصَّبيانَ: «وَما أَملِكُ لَك أَن نَزعَ اللهُ الرَّحمَةَ مِن قَلبِك»؛ فَالرحمَةُ إِذا رُفِعَتْ مِن القَلبِ صَارَ صَخرًا أَصَمَّ، لا يَلينُ لِضعفٍ، وَلا يَنهَنِي لِطفلٍ، وَلا يَرُقُّ لِدَمعَةٍ. وَمِن لا يَرْحَمِ النّاسَ، حُجِبَ عَن رَحمَةِ اللهِ، فَالقَلبُ مِرآةٌ، إِن اسوَدَّ اِنعَكَسَ سَوادُه عَلَى صاحِبِه.
– إِن بَخلَ المَشاعِرِ، وَجَفافَ الأَحاسيسِ، أَشدُّ وَقعًا، وَأَقسى أَلَمًا مِن بَخلِ المَالِ، وَشَحِّ المَنعِ بِالأَنفَالِ؛ فَالإنسانُ يَستَطيعُ تَحمُّلَ تَقتيرِ اليَدِ بِالعَطَاءِ، وَيَرضى في مَعيشَتِهِ بلا سَخاءٍ، لَكِنَّهُ لا يَستَطيعُ الحَيَاةَ لَحظَةً بِإِهدارِ قِيمَتِهِ، وَتَهاوي قَامتِهِ، قَد يَحتَمِلُ يَدًا تُخنِقُهُ، وَمَعيشَةً قَلِيلَةً تَسحَقُهُ، لَكِنَّهُ لا يَحتَمِلُ لَحظَةً واحِدَةً تَهانَ فيها كَرامَتُهُ، وَيُهملُ وُجودَهُ، وَتُغتالُ مَشاعِرُهُ، وَيُلغى صَوتُهُ، وَيُجفَّفُ حَنينُهُ؛ إِذ الفَقرُ الحَقِيقِيُّ لَيسَ فَقرَ الجِيبِ، بَل فَقرَ القَلبِ.
أَمَا لِينُ القَلبِ بِالمَحبَّةِ، وَفَيضُهُ بِالتَّقديرِ وَالمَودَّةِ؛ يَنثُرُ عَلَى الجَميعِ رِقَّةً، وَبَهاءً، وَإِشراقًا، وَيَفوحُ شَذَاهُ رَونَقًا، وَجَمالًا، وَإِغدَاقًا؛ فَهُوَ كَالشَّمسِ إِذا أَشرَقتْ أَذابتْ جَليدَ النَّفسِ، وَغَمَرتِ الفُؤادَ بِالدَّفءِ؛ لِأَنَّهُ قَلبٌ سَخِيٌّ بِالمَشاعِرِ، كَريمٌ بِالأَحاسيسِ يُعطي لِلْحَيَاةِ طَعمًا، وَلِلْكِلامِ مَعنىً، وَلِلْوُجودِ قِيمَةً، يُبَدِّدُ ظَلمَةَ الجَفاءِ بِنورِ الوَجدِ، وَيَمحو الغَلظَةَ بِرِقَّةِ الطَّبعِ، وَيَقضي عَلَى قَسوةِ القَلبِ كَما يَقضي الفَجرُ عَلَى لَيلٍ مُظلِمٍ، وَسَوادٍ مُعتِمٍ، فَكُونُوا قُلوبًا تُحسِنُ العَطَاءَ، وَتُجودُ بِسَخاءٍ قَبلَ أَن تَكونُوا أَيادِيَ تُجيدُ البَذلَ؛ فالمَشاعِرُ إِذا بُخلَ بِها، ماتَ قَلبُ الإِنسَانِ وَهُوَ يَمشِي بَينَ الأَحياءِ.
– إِن بُخلَ القَلبِ أَقسى مِن بُخلِ اليَدِ، فَشَحُّ المَالِ يُعَوَّضُ أَمّا شَحُّ المَشاعِرِ فَيَترُك فَراغًا لا يَملأُهُ شَيءٌ، وَجُرحًا غَائِرًا لا يَلْتَئمُ، وَلا يَرَاهُ أَحَدٌ، لَكِنَّهُ يَنزِفُ في صَمتٍ.
فَما أَفقَرَ مَنْ مَلَكَ القُدْرَةِ عَلَى العَطاءِ العاطِفِيِّ ثُمَّ مَنعَهُ!
وَمَن فَقَدَ الرِّعايةَ، وَالاهتِمامَ، وَسُبُلَ الوِئامِ مِن أَقْرَبِ النّاسِ لَدَيهِ، وَأَعْزَّهُم عَلَيهِ؛ فَلَن تُعَوِّضَهُ الدُّنْيا بِأَسرِها، وَلا بِكُلِّ ما بِها؛ فَما أَتعَسَ العَلاقاتِ التّي تَعيشُ عَلَى الحَدِّ الأَدَنَى مِنَ المَشاعِرِ، وَالدُّونيَّةِ مِنَ الإِنسَانِيَّةِ! حَيْثُ تُقَالُ الكَلِماتُ بِمِيزَانٍ، وَتُمنَحُ العاطِفَةُ بِحُسبَانٍ، وَيَكأَنَّ الحُبَّ مَورِدًا نادِرًا، لا نَبَعًا لا يَنضُبُ.
– لِيَتَنا نُدرِك أَنَّ الكَلِمَةَ الطّيبَةَ لا تُفَقِّرُ، وَأَنَّ الاِحتِواءَ لا يُنقِصُ، وَأَنَّ الرَّحمَةَ لا تُضَعِفُ، بَل تَرفَعُ الإِنسَانَ فِي أَعينِ الآخَرينَ، وَقَبْلَ ذَلِك فِي عَينَي نَفسِهِ؛ فَلَيْسَ الغِنى فِيمَا نَملِكُ، بَل فِيمَا نَمنَحُ، وَأَغنَى النّاسِ مَن مَلَكَ فَمَنَحَ، وَأُسيِئَ لَهُ فَصَفَحَ، وَالأَغنَى مِنْهُ مَن كَانَ غِنَاهُ فِي نَفسِهِ لا عَن كَثرَةِ عَرَضِهِ، وَأَغْلاَهُم مَن كَانَ ما فِي يَدِهِ أَسرَعَ إِلَى يَدِ غَيرِهِ، فَالغَنيُّ مَن كَانَ قَلبُه كَريمًا، وَقَولُهُ رَحِيمًا، وَمَعدِنُهُ أَصِيلًا، سَخِيًّا بِمَشاعِرِهِ، لِينًا فِي حُضورِهِ، وَجَابِرًا لِلْخَواطِرِ قَبلَ أَنْ تَنْكَسِرَ وَمُغدِقًا لِلْمَشاعِرِ قَبلَ أَنْ تَندَثِرَ.
لِيَتَنا نُدرِك أَنَّ كَلِمَةً وَاحِدَةً قَد تُنقِذُ رُوحًا مِنَ الاِنْهِيَارِ، وَأَنَّ اِحتِواءً صادِقًا قَد يَجْبُرُ إِنسَانًا مِن دَرَكِ الاِنكسَارِ، وَأَنَّ مُجَرَّدَ دِفْءِ الحُضورِ، وَالاِهتِمامِ أَحيانًا أَهَمُّ مِن كَثرَةِ الكَلامِ؛ فالإِصغاءُ الحَقُّ هُوَ إِحساسُكَ بِأَنَّ هُناكَ مَن يَشعُرُ بِكَ فَضلًا عَن كَوْنِهِ يَراكَ.





